أقباط مصر.. المخزون الإستراتيجي للحنان
صفحة 1 من اصل 1
أقباط مصر.. المخزون الإستراتيجي للحنان
أقباط مصر.. المخزون الإستراتيجي للحنان
نبيل شرف الدين
"دائمًا كانت حضارة مصر تديُّنًا.. وظل دين المصريين تحضرًا"
في قطار الصعيد بينما كنت في زيارة لجذوري في الصعيد، التي أحرص عليها منذ أن استجبت لصوت "النداهة القاهرية" عام 1978، والتهمتني شأن ملايين من أبناء القرى والنجوع والمدن الصغيرة المتناثرة على أرض مصر، استغرقني التأمل في محطات رحلة الغربة داخل الوطن منذ عقود، وما تشهده البلاد حاليًا من تحولات درامية، تجاوزت خيال أكثر المبدعين خصوبة، وبينما كنت غارقًا في أفكاري إذا برجل يرتدي "اليونيفورم" الخاص بالعاملين في (س ح م)، أو سكك حديد مصر.. كانت ملامحه مألوفة لدرجة دفعتني للسؤال عما إذا كنا قد التقينا من قبل، لكنه أجاب بالنفي، واستدرك مؤكدًا أنه يعرفني جيدًا من خلال مقابلاتي التلفزيونية، ومقالاتي الصحفية، ولا يدع شاردة تتعلق بشخصي المتواضع، ومضى يرحب بي بعبارات أخجلتني، فسألته عن اسمه فأجاب بتواضع فطري: "خدامك جرجس.. عامل النظافة في القطار"، الذي تدهور مستواه، فاختزل الرجل الأمر بقوله: إن أحوال القطارات لا تختلف كثيرًا عما يجري في مصر، من إهمال وفساد وسوء إدارة وتراجع مروع في مستوى العاملين، ومع ذلك لم يكن الرجل متشائمًا بل كان يتحدث وابتسامة ترتسم على وجهه، وإن كانت مشوبة بالسخرية المريرة.
لم تكن تمر نصف ساعة في ذلك المشوار الطويل وسط سكون الليل، إلا ويحمل لي "عم جرجس" مفاجأة جديدة، من القهوة التي لا أفهم كيف أدرك أنني من المدمنين عليها، ثم يلحقني بساندويتشين طازجين من الفول والطعمية.
وهكذا ظل يرعاني كأنه "الملاك الحارس" طيلة الرحلة، نتجاذب أطراف الحديث والنكات حتى نسيت القطار والرحلة وكل شيء، اللهم إلا أمرين ظلا يلحان على كياني كله كمطرقة ثقيلة لا يمكنني احتمالها دون إحساس بالوجع.
الأولى تلك الكنائس المتراصة على امتداد الطريق بأضوائها الخافتة، كأنها "سهراية مصرية"، تنظر إليك بحنان ورومانسية تسهم أشجار النخيل في رسم لوحة الوطن، وتستدعي كلمات فؤاد حداد، الماروني الذي سكنته روح مصر فأصبح مصريًّا أكثر من المصريين أنفسهم وهو يقول:
أنا ماشي عاشق في الوطن مسحور.. وبعدي ست بلاد وست بحور
وبغني يا ولاد البلد يا ولاد.. أجمل ما في الدنيا شجر وبلاد
بدت لي الكنائس العجوز بأضوائها الخافتة الحانية وسط غابات من الإعلانات الضوئية القبيحة كوردة تقاوم أكوام النفايات التي اعتدنا التعايش معها كأنها قدر محتوم، وحينها تذكرت نكتة شهيرة عن طريقة معرفة الكنيسة، من المساجد التي يتعمد بناتها على أن تحاصر الكنيسة، وصار الأقباط يتندرون قائلين: إزاي تعرف الكنيسة؟، والإجابة من المساجد التي تحيط بها، وقلت لماذا تحاصرها ولا تجاورها، واكتشفت أنني لا أبحث عن حل للظاهرة بقدر ما أجتهد في صيغة مصالحة لتقبل الأمر على علاته، وحكمة التعايش التي اتسم بها الأقباط طيلة تاريخهم.
أما المطرقة الثانية التي أوجعت كياني فهي تلك "الحنّية" أو الحنان القبطي الذي أحاطني به "عم جرجس"، فهذا الرجل لا يعرفني، كل ما في الأمر أنه شاهدني مصادفة عبر إحدى الفضائيات أو على صفحات صحيفة، ومع ذلك راح يعاملني بمحبة صافية كأنني ابنه، مع أنه مجرد عامل بسيط، لكنه يتباهى بـ"زرعة العمر"، يقصد أبناءه الذين تعب في تربيتهم وتعليمهم، غير أنه لا يلبث أن يصمت لحظة يقاوم فيها دمعة تصهر عينيه، وهو يتحدث عن ابنته "قليلة البخت"، التي ابتليت بمرض أقعدها عن الحركة، ومع ذلك تربي طفلين رزقت بهما ولا يملك ثمن مقعد متحرك، وكيف طاف بها على الأطباء، فضلاً عن "الناس البركة" ممن اشتهروا بروحانيتهم سواء من القساوسة والرهبان وحتى أولياء الله الصالحين.
حينها احتضنت الرجل وبدت رائحة عرقه تشبه المرحوم أبي، وأحسست بفيض من "الحنان المريمي" يغمر المكان، ووعدته خيرًا أنني سأجتهد في مساعدته، فابتسم بتسامح مرددًا قوله تعالى: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، وأضاف: يكفيك ما تلاقيه يا ابني، ربنا في ضهرك، وثق أنه كما يستخدمك للزود عن حقوق أهلك، فإنه سيمنحك القدرة أيضًا على تحمل الآلام والشتائم والتهديدات، ووصل القطار لمحطة المغادرة، وبعدها تذكرت أن "عم جرجس" لم يطلب رقم هاتفي، ونسيت أن أسأله عن رقمه، وكل ما أعرفه عنه أنه "عم جرجس"، ولعله "مارجرجس" البطل الذي يذكرني بسيرة الإمام الحسين، فسيرة البطلين تحمل رسالة واحدة مفادها أن الحق ينتصر على السيف.. مهما طال الظلم وتوحش.
tanalky- Admin
- عدد المساهمات : 896
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/06/2011
الموقع : مشرف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى